الباحثة الألمانية زابينه شميدكه: تأثّراللاهوتيون اليهود بفكرالمعتزلة

حوار خاص –  أجرى الحوار: هيثم مزاحم – مركز بيروت لدراسات الشرق الأوسط – 

الباحثة الألمانية زابين شميدكة (ولدت عام 1964) هي أستاذ الدراسات الإسلامية ومديرة وحدة البحوث في التاريخ الفكري للعالم الإسلامي في جامعة برلين الحرة. لديها درجة البكالوريوس (بامتياز مع مرتبة الشرف) من الجامعة العبرية في القدس (1986)، وشهادة الماجستير من كلية الدراسات الشرقية والأفريقية في لندن (1987)، والدكتوراه من جامعة أكسفورد (1990). هي تلميذة المستشرق الألماني الشهير ويلفريد مادلونغ، الذي تخصص في الدراسات الإسلامية وبخاصة المعتزلة والزيدية والإمامية. هي رئيسة تحرير المقالات اللاهوتية والفلسفية في موسوعة الإسلام Encyclopedia of Islam (طبعة ليدن)، ومديرة مشاركة لتاريخ الفلسفة في الموسوعة نفسها.
نشرت شميدكة نحو 34 كتاباً و84 بحثاً والكثير من الكتب والدراسات والمخطوطات المتعلقة بالجدل اللاهوتي الإسلامي – اليهودي، وكتبت كتاباً عن الفيلسوف اليهودي من بغداد، إبن كمونة (683هـ)، ودراسة عن تأثير المعتزلة على اللاهوت اليهودي. أجرى موقع “البديع” حواراً مع الباحثة شميدكة لسؤالها عن أفكارها وأعمالها. وفي ما يلي نص الحوار:

pr_MG_6424

عمِلت مطوّلًا على دراسات حول فكر المعتزلة ونصوصِهم؛ ما هو عمَلك الأساسيّ في هذا المجال، وما كانت نتائجه؟
لقد تركّز بحثي على المعتزلة، على مدى العقد الماضي. وإنَّ النتيجة الأهمَّ لعملي كانت – على ما أعتقد – أنه باتت نصوص أوّليّة كثيرة لحركة المعتزلة في متناوَل الباحثين عمّا كان مِن قبل. كذلك؛ لقد حررت، مع عدد من الزملاء، مؤلَّف “كتاب الأصول لابن خلّاد” الذي ظلّ محفوظًا في طيّات تعليق مستفيض لأحد العلماء الزيديّينَ المتأخِّرينَ. كذلك؛ حرّرتُ الأجزاءَ الموجودة (المتداوَلة) لكتاب “تصفّح الأدلّة” لأبي الحسين البصريّ، وتعليقًا على “كتاب التذكِرة في الجواهر والأعراض” لابن ماسويه تلميذ عبد الجبار. وكتبت دراسات عديدة لحركة المعتزلة وأبرزِ شخصياتها، إلى جانب التحقيقات التي ذكرتها لنصوصهم؛ كما تمّ استحداث جردات تحوي مصادر لمخطوطات المعتزلة. ولقد نظمتُ مؤتمرات عدّة حول المعتزلة، على مدى العام المنصرم، وأسّستُ “فريق عمل مخطوطات المعتزلة”. وأرى النتيجة الأكثر إرضاءً، من بين ما قمنا به، أنه ازدادَ عدد العلماء الناشئين الذين يدرسون حركة المعتزلة؛ وهو ما يبيِّنه عددُ الأطروحات المقدَّمة في هذا المجال لنيل شهادة الدكتوراه. فباتت إذن حركة المعتزلة على خارطة البحث العلميّ بفعل جهودنا الرامية لذلك.

وماذا عن “القـرّائين” اليهود الذين تأثروا بفكر المعتزلة؟… هلّا حدثـتنا عنهم وعن أعمالهم؟
إنَّ رؤية علماء الدين اليهود للفكر الكلامي للمعتزلة هي أحد الوجوه المذهلة في تاريخ المعتزلة. فبخلاف المسيحية؛ أظهرت اليهودية تقبّلًا للأفكار العقيدية الإسلامية الأساسية (مثل الوُجهة الإسلامية – التوحيد – للاعتقاد بوجود الله). ولقد تبنّى الكتّاب “الربانيون” و”القـرّاؤون” الوُجهة المعتزليّة، بالتحديد، بدرجات متفاوتة منذ القرن التاسع الميلاديّ؛ حتّى ظهرت “المعتزلة اليهودية” مع القرن الحادي عشر. ولقد وضع العلماء اليهود مؤلفاتٍ لهم مضافةً إلى ما ورد إليهم من كتابات المعتزلة، كما أصدروا نُسَخًا مِن كُتب المعتزلة المسلمِين، منقولةً إلى العِبرية. لقد أثرت المعتزلة في صميم الحياة الدينية والفكرية اليهودية في الشرق؛ فقد تبنّى القـرّاؤون وعددٌ من رؤساء الأكاديميات الربانية القديمة (الـ”يشيفوت”) – في بغداد في القرن العاشر الميلادي – نظرة المعتزلة للعالَم. وعلى عكس شأن المعتزلة؛ فإنَّ الأعمال الأشعريّة والكتّاب الأشعريّين لَـقِيَا اهتمامًا قليلًا جدًّا مِن قِبَلِ العلماء اليهود، حتّى أنَّ الاهتمامَ القليل هذا كان على نحو النقد (التصحيحيّ) غالبًا.
إنه مذهلٌ كم من أجزاء من النصوص المعتزلية الإسلامية تُـرصد في المجموعات المتنوعة للجنيزا(وهو كنيس في القاهرة من أهم المصادر لمعرفة تاريخ اليهودية) حول العالَم. والأهمّ من بينها، في هذا المجال، المكتشَفات الشاملة لموادّ مخطوطيّة ضمن “مجموعة أبراهام فيركوفيتش” في المكتبة الوطنية الروسية في سان بطرسبرغ؛ التي يُبحث إلّا في القليل منها حتّى الآن. فنسخة “تصفّح الأدلّة” لأبي الحسين البصري مثلًا – التي ذكرتُها مِن قَبلُ في هذه المقابلة –مستحـدَثة حصرًا مِن أجزاء وُجدت في “مجموعة أبراهام فيركوفيتش” (في حين أنَّ المؤلَّف هذا مفقودٌ كليًّا في العالَم الإسلاميّ).

هل وجدت اختلافات كبيرة بين الشيعة الإثنَي عشريّة والمعتزلة في الفكر العقيديّ لكليهما؟

إن احتضان الشيعة لفكر المعتزلة ظاهرة معروفة جيداً وهو ما هذه الحركة تستمر بعدما توقفت عن الوجود في الإسلام السني الى ما بعد القرن الرابع ميللادي، سكما أن تأثيره استمر كبيراً في الدوائر السنية.
على كل حال؛ في حين قَبِلَ علماء الزيدية بجميع معتقدات المعتزلة، ويمكن اعتبارُهم ممثلين لفكر المعتزلة (فإنَّ مِن الزيديّين مَن تتلمذ على يد أبي عبد الله البصري وقاضي القضاة عبد الجبّار الهمذانيّ في القرن الحادي عشر)؛ رَسَمَ علماء الشيعة الإثنا عشرية (الإمامية) حدودًا واضحة بين الإمامية والمعتزليّة. وبفعل عقيدة “الإمامة” الخاصّة بالشيعة الإثني عشرية، وما تقتضيه من “الإيمان” الذي يرفض المحدَثات من المؤلَّفات (الخارجة عن الطريقة الإمامية الراسخة)؛ رفض علماء الشيعة الإثني عشرية باستمرار عقائدَ المعتزلة الخاصة بـ”الوعد والوعيد”، ومعها فكرة “المنزلة المتوسّطة” (“المنزلة بين المنزلتَين”) للفاسق بين الإيمان والكفر.

هل تعتقدين بأنَّ الزيديّة هم فعلاً الذين حافظوا على مؤلَّفات المعتزلة وهلّا أوضحتَ ذلك؟
بالفعل؛ لم نكن لنعلمَ شيئًا مما هو بين أيدينا اليوم عن المعتزلة، لولا تقبّل الزيدية للمعتزليّة، والنسخ المنظَّم– الذي تمّ بعد التوحيد السياسيّ للمجتمعَين الزيديَّين في شمال إيران واليمن منذ القرن الـ12- للكتابات المعتزليّة لصالح مكتبة الإمام في ظفر (ومن هناك تمّ نقل هذه المقتنيات المخطوطيّة إلى مكتبة المتوَكِّلية في صنعاء، خلال عشرينيّات القرن العشرين) وجميع مكتبات اليمن الصغيرة (العامّة منها والخاصّة). وينبغي أن نعيَ أنَّ الزيديِّينَ في ذلك الوقت كانوا ميّالِينَ إلى كتابات الفرع البهشميّ للحركة المعتزليّة؛ فليس لدينا إذن كتاباتٌ لفروع منافسة للبهشميّة، كالإخشيدية أو مدرسة بغداد. وبالنسبة إلى أفكار أبي الحسين البصريّ العقيدية؛ فإنه لدينا، في مكتبات اليمن، كتاباتٌ لِمُتَّبِعِهِ اللاحِق محمود ابن محمد الملاحميّ الخوارزميّ، في حين لم تصلِ اليمنَ كتاباتٌ دينية للبصريّ (لا سيّما مؤلَّف “غُرَرُ الأدلّة”— الأصغر حجمًا نسبةً إلى مؤلّفه: “تصفّح الأدلّة”). لكنفي الوقت عينه؛ كان مؤلَّفأبي الحسين البصريّ، “المعتمَد في أصول الفِقه”، واسع الشهرة في اليمن، بحسب ما يتبيَّن من خلال النسخ المخطوطة الكثيرة ذات الإسنادات إلى هذا المؤلَّف.

ثمّة ضورة ملحّة لتحرير ودراسة المخطوطات الإسلاميّة المهمَلة، لمساعدة البحث التاريخيّ حيالَ المصادر النَّصّيّة للمناهج المتنوِّعة للفكر الإسلاميّ… ما هي جهودكم في هذا السياق؟

على مدى العقد المنصرم تقريبًا؛ شاهدنا توجّهًا منتظمًا في دراسات اللغة العربية والدراسات الإسلامية نحو “علم فقه اللغة”؛ حيث انتحى كثيرٌ من الباحثين الناشئين منحى دراسة المخطوطات، إما على نحو كونها مَصَادِرَ لدراساتهم، وإما على نحو تقديم أوّل تحرير دقيق للمصادر النَّصّيّة المهمَلة غالبًا حتّى يومنا هذا. وهذا التطور هو نتيجةٌ للثورة الرقمية، وللاهتمام المتزايد للمكتبات ومعاهد البحث العلميّ حول العالَم؛ بحفظ مقتنياتها من المخطوطات عن طريق الوسائل الرقمية (التكنولوجية) وجعلِها في متناوَل الجمهور الأكاديميّ (العلمائيّ) الأوسع. لا يستطيع العلماء أن يهملوا حقيقة أنّه ثمة مئات آلاف المخطوطات في العالَم – في جميع مجالات المعرفة تقريبًا – يحتوي كثير منها على موادَّ نصّيّة قد أهمِلت بالكامل حتّى الآن، أو لم يتمَّ الاعتناءُ بها كما ينبغي. نتيجةَ ذلك؛ ظهر وعيٌ متزايد لحقيقة أنّه ستكون مراجعاتٌ مهمّة في مجالات كثيرة، فورَ إحضار الموادّ المهمَلة (حاليًّا) لتحليلها. ويجب أن تكون المهمّة الأساسية للعلماء المعاصرينَ، في العالم الإسلاميّ وفي الغرب، العملَ على جعل هذه الموادّ المهمَلة في متناول الباحثينَ والعامّة؛ من خلال فَهَارِسَ موثوقةٍ للمخطوطاتِ، وكتاباتٍ علميّة، ودراساتٍ معمَّـقة… ومن الواضح أنَّ هذا سيستغرق عقودًا من الزمن. إلى ذلك؛ إنَّ توزّع المخطوطات المهمَلة على مناطق العالم كافّة، يصعِّب الحصول عليها. وبمعزل عن العقبات السياسية؛ تشكل الحدود الاقتصادية عائقًا كبيرًا، وينبغي تخطّيها بطريقة ما. لذا؛ ينبغي التعاون العلمائيّ المشتـرَك غيرُ المقيّد، على صعيد عالَميّ.
إنّي أثمّن الدعمَ الذي نحظى به مِن قِبل علماءَ ومعاهدَ من حول العالم. وإنَّ جميع مشاريعنا البحثية التي ذكرتُها في هذه المقابلة حتّى الآن، هي ذات مخطوطات مهمَلة وغير معروفة على صعيد البحث العلميّ. ونحن معنيّون ومندمجون في جميع خطوات تحويل المخطوطات المهمَلة إلى مخطوطات متداوَلة على صعيد البحث العلميّ عالميًّا.

هل ثمّة تعاون بينكم وبين علماء أو مَعاهد بحوث من العالَم الإسلاميّ؟ وكيف تقيّمون التعاون بين المعاهد الغربية والمعاهد الإسلامية في هذا الوارد؟
إنَّ العالِم الجدّيّ يرى أهمية قصوى للتعاون بين العلماء والمَعاهد على مستـوًى عالَميّ. وبخلاف مجالات البحث الأخرى؛ ليس ثمة أنماط تقليدية علمائية وطنية في مجال الدراسات الإسلامية. وينبغي علينا إذن، أن نعيَ متى يكون بحثٌ جاريًا في مكان ما، يتماهى مع بحثنا في الموضوع والغاية التي نحن في صددها. وإنَّ المخطوطات الموجودة في أوروبا وروسيا وآسيا الوسطى وأميركا الشمالية تساوي بأهميتها تلك الموجودة في مراكز التعليم التقليدية في العالم الإسلاميّ في القاهرة ودمشق وإسطنبول وطهران، واليمن. وينبغي أن تُـتَاحَ نتائجُ أبحاثنا وأبحاثِ غيرِنا حول العالَم في منابـرَ مفتوحة للجميع، ليسهُل التطوّر في أبحاث المجالات ذات المخطوطات المهمَلة. نحن في “وحدة البحوث” نتعاون مع معاهدَ رائدة في طهران فنشاركَها في نشر “سلسلات كتبية”؛ وإنَّ أعضاء مِن بيننا ينشرون أبحاثُا باللغة العربية والفارسية، ويشاركون زملاء لهم في اليمن وتركيا وعُمان والمغرب وإيران، في أبحاثِهم. وبشكل منتظم؛ تستقبل “وحدة البحوث” في برلين علماء زوّار من لبنان وإيران والسعودية وفلسطين وتركيا. وننظّم مؤتَمرًا عالَميًّا سنويًّا يتمثّل فيه بشكل كبير علماءُ من العالم الإسلاميّ.

هلّا حدّثتنا عن المشاريع البحثية الراهنة والنشاطات، لدى وحدة البحوث في التاريخ الفكريّ للعالم الإسلاميّ؟
إن أعضاء وحدة البحوث مقتنعون بأنَّ البحث الأكاديمي يمتلك القوة لبرهنة أنَّ الأفكار والحركات الفكرية تتخطّى جميع الحدود، في عالم تزداد فيه الحدود الثقافية والدينية والسياسية والاقتصادية أهميةً. وهذا ينطبق على الحركات الفكرية السائدة في الشرق الأوسط (مهد الديانات السماوية التوحيدية الثلاث) حيث أشدّ النزاعات الدائرة في العالم اليوم، وحيث تتالت أنماط الثقافة البشرية البارزة على مدى يفوق الألفَي سنة. وإذا كنا نرجو تأسيس علاقات متينة بين ثقافات وديانات وكيانات سياسية رئيسة، فإنه ينبغي أن نتعرف على الموروث الثقافي الخاصّ بنا، وذلك الخاصّ بالآخرين، وأن نتعرف على أوجه تشابههما. فإن هذه المعرفة ستؤسّس للاحترام المتبادَل، وستجنّب انتشارَ المفاهيم الآيديولوجية المشوَّشة عن الآخرين. وإنَّ العقل البحثيّ المنفتح، والجهوزية لتوسيع دائرة التحقيق العِلميّ، والإرادة لمشاركة النتائج البحثية مع جمهور أوسع؛ تساهِم بفاعليّة في تشكيل رأي عامّ أقلَّ انحيازا وأكثـرَ تهذيبًا.
وبعيدًاعن الاتجاه الأكاديمي الاعتيادي الذي غالبًا ما يركّز على الكتّاب المسلمين أو المسيحيين أو اليهود، وعلى كتاباتهم؛ فإنَّ وحدة البحوث لدينا فريدة في “اعتمادها الثلاثيّ الأبعاد” للتاريخ الفكريّ لمنطقة الشرق الأوسط. فهي تسعى جاهدةً للمساهمة في تهيئة أجواء مسالمة بين المسلمين وغير المسلمين، على صعيد العالم الإسلامي والعالم بأسره. نحن ملتزمون بالقيام بأبحاث فريدة حول مناحٍ متنوِّعة ضمن التاريخ الفكريّ للعالم الإسلاميّ، خاصة فترة العصور الوسطى، وفترة ما قبل الحداثة، والفترات المبكرة للحداثة؛ وإنَّ نتائج أبحاثنا ليست للأكاديميين فحسب، بل هي معروضة لجميع المهتمّين في الشرق وفي الغرب.

ممن يتألف فريق الباحثين وما هي جنسياتهم؟
إنَّ وحدة البحوث لدينا تدرس، وتعكس للمطّلعين، أوجهَ التكافل بين الفكر الإسلامي والفكر المسيحيّ والفكر اليهودي. فريقنا يضمّ باحثين من مختلف أنحاء العالم ومن مختلف الديانات؛ حتّى أنَّ عدد الباحثين غير المسلمين لدينا يساوي عدد الباحثين المسلمين. فمنهم من ينتمون إلى الغرب، ومنهم من ينتمي إلى الشرق الأوسط. وفي حين نحن جميعًا مطّلعون كباحثينَ على عدد من الاتجاهات ضمن الدراسات الإسلامية، فإنَّ بعضنا متخصّص في الأدب المسيحيّ، والأدب اليهوديّ العربيّ، مع اطّلاع جيّد على لغات ذات صلة؛ كالسريانية والآرامية والقبطية والجودائية-العربيّة والعِبريّة والفارسية.
وقد تأسست وحدة البحوث لدينا في العامِ 2011؛ ويتمّ تمويلُها مِن قِبل طرف ثالث حصرًا. لكن النشاطات المتنوِّعة وبعض المشاريع التي يُعمل عليها ضمن “وحدة البحوث”، قد شُرِعَ بها منذ العامِ 2003.
وتركّز وحدة البحوث حاليًّا على دراسات (مشاريع) في مجال علم الكلام والفلسفة. ففي علم الكلام؛ نحن معنيّون بدراسة الموروث الأدبيّ الغنيّ – وغير المكتشَف على نحو كبير- للمعتزلة. وفي الأعوام المنصرمة؛ تمكّـنّا من تعريف الكثير من المخطوطات، ومِن جعلِها في متناول اليد، من خلال التحرير الدقيق والدراسات المتعمّقة. كذلك نركّز في مجال علم الكلام على الموروث الأشعريّ. فمن سنوات قليلة ماضية؛ تمكّنتُ من رصد مجلَّدَينِ لأكثر المؤلفات الدينية شموليةً لأبي بكر الباقلانيّ، وهو مؤلَّف “كتاب هداية المسترشِدين”، في سان بطرسبرغ وفي طشقند. ونحن على وشك إتمام تحرير دقيق لجميع المجلّدات الأربعة المعروفة لهذا المؤلَّف (والمجلَّدان الآخران موجودان في القاهرة وفاس). إلى ذلك؛ يُعِدُّ أحدُ أفراد طاقمنا حاليًّا دراسة منهجية للباقلانيّ وآرائه العقيدية. واثنان منّا معنيّان بتناول “كلام الأشعريّة” لعلماء دينيّين أقباط عاشوا في القرنَين الـ13 والـ14 الميلاديَّينِ. وقد أشرفنا كذلك على إنجاز كتيّب أوكسفورد عن العقيدة الإسلامية، الذي أحرّره أنا حاليًّا لمصلحة “Oxford University Press”.

ما هي مشاريعكم الحالية وبخاصة في مجال الفلسفة؟
أمّا مشاريعنا الحالية في مجال الفلسفة؛ فهي معنية، بالدرجة الأولى، بدراسة فترة ما بعد ابن سينا. كذلك؛ نقوم بدراسات متنوِّعة حول أبي البركات البغدادي وابن كمّونة ودافيد بن جاشوا بن ميمون، لتسليط الضوء على التداخل الكامن بين الفلسفة اليهودية والفلسفة الإسلامية في الفترة ما بين القرن الـ13 والقرن الـ15 الميلاديَّينِ. كما نقوم بدراسة الجيل الأوّل من المعلِّقينَ على شهاب الدين السُّهرَوَردِيّ، بمعزل عن ابن كمّونة وشمس الدين السهرُورديّ وقطب الدين الشيرازيّ. وبعض باحثينا معنيّون بالدراسة المنهجية للنهضة اليونانية – العربية في الفترة الصفوية (1502م-1736م) في إيران (وخارجها).
وفي الفترة الأخيرة؛ شرَعنا في التعاون الوطيد مع معهد “ماكس بلانك لتاريخ العلوم” المتمركز في برلين، بهدف دمج تاريخ العلوم في نشاطاتنا البحثية.
وقد بدأنا في الفترة الأخيرة كذلك بدراسة مجال: “الإنجيل باللغة العربية، بين اليهود والمسيحيّين والمسلمين”؛ فنحن – من جهة – مهتمّون بدراسة مؤسّسات وتقاليد الترجمة بين اليهود والمسيحيّين والسامِريّين. ومن جهة أخرى، نحن نحقّق في نظرةِ المؤلِّفِينَ المسلمينَ، وأنماطِ فهمهم للإنجيل.
إنَّ أعضاء فريقنا ينشرون نتائج أبحاثنا بشكل منتظم، باللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية والعربية والفارسية، على الإنترنت؛ وفي مجلّات متداوَلة بين الأكاديميّين عبر الشبكة وفي “سلسلات كُتُبِيَّةٍ” مشهورة في الغرب وفي العالَم الإسلاميّ. كذلك؛ تنشر وَحدة البحوث لدينا رسائلَ إلكترونية شهرية، وتنظّم حدثًا جماهيريًّا بشكلٍ منتظم كلّ فترة لتنوير الرأي العامّ.

ما هي رؤيتُـكم للعمل وحدة البحوث في السنين المقبلة؟
“وَحدة البحوث” مركزٌ فريد من نوعه، لا في ألمانيا وأوروبّا فحسبُ، بل في العالَم بأسره. إنَّ الصدى الإيجابيَّ لنشاطاتنا على الصعيد المحلي والعالميّ، والبروزَ الهائل الذي حققناه على مدى السنين الماضية، يجعلان ضمانَ مستقبل “وحدة البحوث” أمرًا غاية في الأهمية. هذا يعتمد بشكل أوّليّ على مدى استطاعتنا جلبَ التمويل اللازم للمضي في عملنا. إنَّ رؤيتي هي تحويل “وحدة البحوث” إلى معهدٍ للبحوث، ذي هيكليّة مالية وبشرية متينة، يكون نقطة محورية للعلماء من العالم الإسلاميّ والغرب، الذين سيعملون عندنا متعاضدِينَ لحفظ وتحليل الموروث الفكريّ للعالم الإسلاميّ. أريدهُ أن يكون معهدًا يتدرّب فيه جيل جديد من العلماء. وسيظل التركيز في أبحاثنا على الدراسات البحثية المتطورة الرائدة في مجالها. ونحن نعمل باستمرار على توسيع دائرة تخصّصية “وحدة البحوث”، من خلال استحداث مجالات جديدة كليًّا في التحقيق العلميّ. ولقد تمّ إنشاء مجلّة “التاريخ الفكريّ للعالم الإسلاميّ” المخصّصة للأكاديميّين، والتي ينشرها “Brill, Leiden”. كلّ عدد من هذه المجلّة، حتّى الآن، يتطرّق غالبًا إلى مجالاتِ بحثٍ مهملةٍ ومهمَّشةٍ، بهدف وضعها على خارطة التداول والاطّلاع. وقد عُنِيَ الجزءُ الأول بموضوع “الإنجيل باللغة العربية بين اليهود والسيحيّينَ والمسلمينَ”. وسيكون موضوع الأجزاء المقبلة: “نمط الفهم اليهوديّ والمسيحيّ للعقيدة الإسلامية”(2014)، و”آفاق جديدة في الدراسات اليونانية-العربية”(2015)، و”تواريخ الكُتُبِ في العالَم الإسلاميّ: حياتها، تقلّباتها، وموتها”(2016).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *